عرض مشاركة واحدة
قديم 01-29-2021, 11:41 AM   #127


مديح ال قطب غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1751
 تاريخ التسجيل :  06-03-2020
 أخر زيارة : 08-13-2021 (12:56 PM)
 المشاركات : 34,369 [ + ]
 التقييم :  22241
 الدولهـ
Egypt
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Coral
افتراضي













تابع – سورة المنافقون

محور مواضيع السورة :

وننظر مرة إلى الأحداث ، ومرة إلى الرجال ، ومرة إلى النص القرآني ، فنجدنا مع السيرة ، ومع المنهج التربوي الإلهي ، ومع قدر اللّه العجيب في تصريف الأمور ..

فهذا هو الصف المسلم يندس فيه المنافقون ويعيشون فيه - في حياة الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - قرابة عشر سنوات. والرسول - صلى اللّه عليه وسلم - لا يخرجهم من الصف ، ولا يعرفهم اللّه له بأسمائهم وأعيانهم إلا قبيل وفاته.

وإن كان يعرفهم في لحن القول ، بالالتواء والمداورة. ويعرفهم بسيماهم وما يبدو فيها من آثار الانفعالات والانطباعات. ذلك كي لا يكل اللّه قلوب الناس للناس. فالقلوب له وحده ، وهو الذي يعلم ما فيها ويحاسب عليه ، فأما الناس فلهم ظاهر الأمر كي لا يأخذوا الناس بالظنة ، وكي لا يقضوا في أمورهم بالفراسة! وحتى حينما عرف اللّه نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - بالنفر الذين ظلوا على نفاقهم إلى أواخر حياته ، فإنه لم يطردهم من الجماعة وهم يظهرون الإسلام ويؤدون فرائضه. إنما عرفهم وعرّف بهم واحدا فقط من رجاله هو حذيفة بن اليمان - رضي اللّه عنه - ولم يشع ذلك بين المسلمين. حتى إن عمر - رضي اللّه عنه - كان يأتي حذيفة ليطمئن منه على نفسه أن الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - لم يسمه له من المنافقين! وكان حذيفة يقول له : يا عمر لست منهم. ولا يزيد! وكان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - قد أمر ألا يصلي على أحد منهم مات أبدا. فكان أصحابه يعرفون عند ما يرون الرسول لا يصلي على ميت. فلما قبض - صلى اللّه عليه وسلم - كان حذيفة لا يصلي على من عرف أنه منهم. وكان عمر لا ينهض للصلاة على ميت حتى ينظر. فإن رأى حذيفة هناك علم أنه ليس من المجموعة وإلا لم يصل هو الآخر ولم يقل شيئا! وهكذا كانت تجري الأحداث - كما يرسمها القدر - لحكمتها ولغايتها ، للتربية والعبرة وبناء الأخلاق والنظم والآداب.
وهذا الحادث الذي نزلت فيه تلك الآيات هو وحده موضع عبر وعظات جمة ..


هذا عبد اللّه بن أبي بن سلول . يعيش بين المسلمين. قريبا من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - تتوالى الأحداث والآيات من بين يديه ومن خلفه على حقيقة هذا الدين وصدق هذا الرسول. ولكن اللّه لا يهدي قلبه للإيمان ، لأنه لم يكتب له هذه الرحمة وهذه النعمة. وتقف دونه ودون هذا الفيض المتدفق من النور والتأثير ، تقف دونه إحنة في صدره أن لم يكن ملكا على الأوس والخزرج ، بسبب مقدم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - بالإسلام إلى المدينة! فتكفه هذه وحدها عن الهدى. الذي تواجهه دلائله من كل جانب. وهو يعيش في فيض الإسلام ومده في يثرب! وهذا ابنه عبد اللّه - رضي اللّه عنه وأرضاه - نموذج رفيع للمسلم المتجرد الطائع. يشقى بأبيه ويضيق بأفاعيله ويخجل من مواقفه. ولكنه يكن له ما يكنه الولد البار العطوف. ويسمع أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - يريد أن يقتل أباه هذا. فيختلج قلبه بعواطف ومشاعر متباينة ، يواجهها هو في صراحة وفي قوة وفي نصاعة.

إنه يحب الإسلام ، ويحب طاعة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ويحب أن ينفذ أمره ولو في أبيه. ولكنه
لا يطيق أن يتقدم أحد فيضرب عنق أبيه ويظل يمشي على الأرض بعده أمام ناظريه.


وهو يخشى أن تخونه نفسه ، وألا يقدر على مغالبة شيطان العصبية ، وهتاف الثأر .. وهنا يلجأ إلى نبيه وقائده ليعينه على خلجات قلبه ، ويرفع عنه هذا العنت الذي يلاقيه. فيطلب منه إن كان لا بد فاعلا أن يأمره هو بقتل أبيه. وهو لا بد مطيع. وهو يأتيه برأسه. كي لا يتولى ذلك غيره ، فلا يطيق أن يرى قاتل أبيه يمشي على الأرض. فيقتله.
فيقتل مؤمنا بكافر. فيدخل النار ..


وإنها لروعة تواجه القلب أينما اتجه وأينما قلب النظر في هذا الموقف الكريم. روعة الإيمان في قلب إنسان ، وهو يعرض على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أن يكل إليه أشق عمل على النفس البشرية - أن يقتل أباه - وهو صادق النية فيما يعرض. يتقي به ما هو أكبر في نظره وأشق .. وهو أن تضطره نوازعه البشرية إلى قتل مؤمن بكافر ، فيدخل النار ..


وروعة الصدق والصراحة وهو يواجه ضعفه البشري تجاه أبيه وهو يقول :
«فو اللّه لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني». وهو يطلب من نبيه وقائده أن يعينه على هذا الضعف ويخرجه من هذا الحرج لا بأن يرد أمره أو يغيره - فالأمر مطاع والإشارة نافذة - ولكن بأن يكل إليه هو أن يأتيه برأسه! والرسول الكريم يرى هذه النفس المؤمنة المحرجة ، فيمسح عنها الحرج في سماحة وكرامة : «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» .. ومن قبل هذا يكف عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه عن رأيه : «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟».

ثم تصرف الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - في الحادث تصرف القائد الملهم الحكيم .. وأمره بالسير في غير أوان ، ومتابعة السير حتى الإعياء ، ليصرف الناس عن العصبية المنتنة التي أثارها صياح الرجلين المتقاتلين :
يا للأنصار! يا للمهاجرين! وليصرفهم كذلك عن الفتنة التي أطلقها المنافق عبد اللّه بن أبي بن سلول ، وأرادها أن تحرق ما بين الأنصار والمهاجرين من مودة وإخاء فريدين في تاريخ العقائد وفي تاريخ الإنسان ..

وحديث الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - مع أسيد بن حضير ، وما فيه من تعبئة روحية ضد الفتنة ، واستجاشة للأخذ على يد صاحبها وهو صاحب المكانة في قومه حتى بعد الإسلام! وأخيرا نقف أمام المشهد الرائع الأخير. مشهد الرجل المؤمن عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي. وهو يأخذ بسيفه مدخل المدينة على أبيه فلا يدعه يدخل. تصديقا لمقاله هو : «ليخرجن الأعز منها الأذل». ليعلم أن رسول اللّه هو الأعز. وأنه هو الأذل. ويظل يقفه حتى يأتي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فيأذن له. فيدخلها بإذنه. ويتقرر بالتجربة الواقعة من هو الأعز ومن هو الأذل. في نفس الواقعة. وفي ذات الأوان.

ألا إنها لقمة سامقة تلك التي رفع الإيمان إليها أولئك الرجال. رفعهم إلى هذه القمة ، وهم بعد بشر ، بهم ضعف البشر ، وفيهم عواطف البشر ، وخوالج البشر. وهذا هو أجمل وأصدق ما في هذه العقيدة ، حين يدركها الناس على حقيقتها ، وحين يصبحون هم حقيقتها التي تدب على الأرض في صورة أناسيّ تأكل الطعام وتمشي في الأسواق.

ثم نعيش في ظلال النصوص القرآنية التي تضمنت تلك الأحداث :
«وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لووا رؤوسهم ، ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون» ..


فهم يفعلون الفعلة ، ويطلقون القولة. فإذا عرفوا أنها بلغت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - جبنوا وتخاذلوا وراحوا يقسمون بالأيمان يتخذونها جنة. فإذا قال لهم قائل : تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه ، وهم في أمن من مواجهته ، لووا رؤوسهم ترفعا واستكبارا! وهذه وتلك سمتان متلازمتان في النفس المنافقة.

وإن كان هذا التصرف يجيء عادة ممن لهم مركز في قومهم ومقام. ولكنهم هم في ذوات أنفسهم أضعف من المواجهة فهم يستكبرون ويصدون ويلوون رؤوسهم ما داموا في أمان من المواجهة. حتى إذا ووجهوا كان الجبن والتخاذل والأيمان!


ومن ثم يتوجه الخطاب إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - بما قضاه اللّه في شأنهم على كل حال. وبعدم جدوى الاستغفار لهم بعد قضاء اللّه :
«سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» ..

ويحكي طرفا من فسقهم ، الذي استوجب قضاء اللّه فيهم :
«هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا» ..

وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع ، ولؤم النحيزة. وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان ، في حرب العقيدة ومناهضة الأديان. ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يحسبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين.

إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضوا عن نصرة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ويسلموه للمشركين! وهي خطة المنافقين كما تحكيها هذه الآية لينفض أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - عنه تحت وطأة الضيق والجوع! وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين ، ليموتوا جوعا أو يكفروا باللّه ، ويتركوا الصلاة! وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى اللّه وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام ، بالحصار والتجويع ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق ..


( يتبع )




















 

رد مع اقتباس